الثلاثاء، 22 يونيو 2010

قصة الوحى (2)

سنوات سبقت الوحى:

ولِما عرفناه عن محمد من نضاجة العقل وحسن التفكير، ما كان ليفوته ما عليه قومه من عبادة أحجار صنعوها بأيديهم، يقدمون لها القرابين، ويذبحون لها ويصلون لها فى الأزمات، راجين منها جلب النفع ودفع الضر، وما هى التى تنفع أوتضر، وقد كثرت الآلهة، فأصبح لكل قبيلة إله يقف مع الآلهة الاخرى فى بيت الله، هذا بجانب الإله هُبَل -والذى كان له تمثال كبير داخل الكعبة- وثلاثة آلهة آخرى كانت تسمى ببنات الله وهى: اللات، والعزى، ومناة، فكانوا ينشدون أثناء طوافهم بالكعبة: "واللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، فإنهن الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى"، غير أنهم يرون أن الله وهو إله الكعبة يَسموا على كل هذه الآلهة، وما تلك الآلهة كلها إلا واسطة بينهم وبينه، ويُعبر القرآن عن مفهومهم هذا بقول الله تعالى مخبراً عنهم:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}. [الزمر: 3]، ولكن كانوا ينظرون إلى الله على أنه بعيد عن العالم وقليل التأثير على الناس فى حياتهم اليومية، فلم يصنعوا له تماثيل، فمثله عندهم كمثل بقية الآلهة العليا، أو آلهة السماء المعروفة فى الأديان القديمة، وقد جاء فى التوراة ما يؤكد هذا المعنى، حين قال داوود: {لأنى أنا قد عرفت أن الرب عظيم، وربنا فوق جميع الآلهة}. [سفر المزامير 5:135 ] ، ومع أن آلهة العرب لم تعط لهم هداية أخلاقية، فقد وجد كثير من العرب فى طقوس العبادة ما يكفيه، ولكن بعض القرشيين وجد أن تلك الأوثان الحجرية رموز غير كافية للمقدس.(1)

ويُثبت ذلك ما قاله (بروكلمان) (2) أنه: "ليس من شك فى أن العرب كانوا فى أول الأمر يؤدون الشعائر الدينية إلى تلك الآلهة التى كانت أقرب إليهم من الله... حتى إذا أوشك فجر الإسلام أن يبزغ لم تبق هذه العبادة قادرة على أن تملأ وجدان العرب الدينى بكامله، وهكذا انحط شأن هذه العبادة وانحطت دلالتها انحطاطاً متواصلاً كان يرافقه –دائماً– تعاظم أهمية الشعور الدينى العام القائم على أساس الإيمان بالله، وفى مكة أخذ الله يحتل شيئاً فشيئاً محل هُبَل، الإله العربى القديم، كرب للكعبة".(3)

وكان العرب قد عرفوا الديانتين التوحيديتين: اليهودية والمسيحية، وذلك من خلال رحلاتهم التجارية إلى الشام واليمن، ومخالطتهم ببعض أهل هاتين الديانتين، عند مقابلة بعض الرهبان والنساك المسيحيين، وبعض أحبار اليهود، حيث كان لليهود قبائل فى شبه الجزيرة، منها ما يطلق عليها يهود بنى النضير، ويهود بنى قريظة، ويهود بنى قينقاع، كذلك عرفت العرب الوثنيون أن الكتاب المقدس يقول عنهم أنهم أبناء إسماعيل، الابن الأكبر لإبراهيم، أى أنهم واليهود والنصارى أبناء عمومة واحدة، ولما كان العرب يرون أنهم يعبدون إلهاً واحداً هو الذى يدعونه فى الأزمات، وما كثرة الآلهة لديهم إلى لتشفع لهم عند الله، وأن اليهودية والنصرانية لا تخرج من منظورهم عن توحيد الإله، فلم يشعر العرب بضرورة التحول إلى اليهودية أو النصرانية، لأنهم اعتقدوا أنهم كلهم أعضاء فى الديانة الإبراهيمية، وفى الواقع كانت فكرة التحول من إيمان إلى آخر غريبة على قريش، بجانب أنه لم يكن العرب يرون اليهودية أو النصرانية كديانة حصرية مختلفة بشكل كبير عن دينهم، فكلمة "يهودى" أو "مسيحى" تشير لديهم إلى انتماء قَبلى أكثر مما تشير إليه من اتجاه دينى... ولكن مع تمسك العرب بما هم عليه من عبادة الأوثان، إلا أن بعض عرب الحضر صاروا غير راضين بالتعددية الوثنية، حتى قال بعضهم لبعض: "تعلمون والله ما قومكم على شىء، لقد أخطأوا دين أبيهم إبراهيم، ما حجر -صنم- نطوف به، لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع! يا قوم التمسوا لأنفسكم "ديناً" فإنكم والله ما أنتم على شىء".، فتفرقوا فى البلدان يلتمسون الحنيفية، فذكرت الوثائق أن هناك من تحول إلى النصرانية، ومنهم من ترك عبادة الأوثان وتلمس دين إبراهيم ليتبعه، كزيد بن عمرو بن نفيل الذى كان يقول: "يا معشر قريش، والذى نفس زيد بيده، ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيرى". ثم يقول: "اللهم لو أنى أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به، ولكنى لا أعلمه".(4)

فما كان لمحمد أن يفوته ما عليه قومه من هذا الحال المتردى ومن عادات وتقاليد لا تسمو إلى طبيعة البشر التى أوجدها خالقها، فبعد أن أدرك الخلل الذى أصاب مكة، خاصة فى أجيالها الجديدة، حيث أصبحت التفرقة واضحة بين الأغنياء والفقراء، وقد عاش الأوائل حول الكعبة، وعاش الباقون فى أطراف مكة البعيدة، وتخلى أهل مكة عن المروءة والكرم، وانقلبوا بخلاء تحت زعم مهارة التجارة والاقتصاد، وأصبح بعضهم لا يؤمن بالقدر، بل وصل ببعضهم التفكير فى أن الثراء سيجلب لهم نوعاً من الخلود.

وبعد تزايد إدراك محمد، بأن قريشاً تخلت عن أفضل ما فى المروءة واستبقت أسوأ صورها، من طيش وتكبر، إلى إحساس متضخم بالذات، مما يدمر أخلاقيات المجتمع ويؤدى به إلى الهلاك.

فكان فيما سبق ذكره الكفاية لدفع محمد إلى أن يترك نفسه لسجيَّتها، سجية التفكير والتأمل، وقد كان من عادة العرب إذ ذاك أن ينقطع مفكروهم للعبادة زمناً فى كل عام يقضونه بعيداً عن الناس فى خلوة، يتقربون إلى آلهتهم بالزهد والدعاء، ويتوجهون إليها بقلوبهم يلتمسون عندها الخير والحكمة وكانوا يطلقون على هذا الانقطاع للعبادة: التحنف والتحنث، فوجد محمد فى ذلك التحنث خير ما يُمَكِّنه من الإمعان فيما شُغلت به نفسه من تفكير وتأمل، كما وجد فيه طمأنينة نفسه وشفاء شغفه بالوحدة يتلمس أثناءها الوسيلة إلى ما لم يبرح شوقه يشتد إليه من نشدان المعرفة واستلهام ما فى الكون من أسباب.(5)


شبهة: تمرد محمد

ولم يكن الظلم الاقتصادى فى البيئة المكية سبباً لتفكير محمد فى حال قومه كما قال (جولدزيهر): "المادية وكبرياء الجاهلية وتحكم الأغنياء فى الفقراء هى الميزات السائدة عند أشراف تلك المدينة... ورأى محمد هذا فأخذ يشكو من اضطهاد الفقراء، وطمع الأغنياء، وسوء المعاملة, وعدم المبالاة بالصالح العام".(6) حيث لم يكن ثمة ارتباط بشكل مباشر بين الوحى وبين العوامل السياسية والاقتصادية السائدة فى مكة أو فى غيرها من بلاد العرب، بل كان الوحى نفسه هو العامل الذى جاء ليقلب ملامح الحياة العربية، لا العكس، أما عن تأثر محمد بتلك الأحوال الاقتصادية وعلاجه لها فهو تأثر وعلاج الرجل الفاضل بدون زيادة أو نقصان، ويتضح هذا من شهادة خديجة وتخفيفها من روعه عندما التقى بالوحى الإلهى لأول مرة فتقول له: "لايخزيك الله أبداً. إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقرى الضيف وتعين على نوائب الدهر.(7)

إضافة إلى هذا فإن الوثائق لا تخبرنا مطلقاً عن شكوى محمد من الظلم السائد فى مكة كما يزعم (جولدزيهر) ، ولا عن منع كبار التجار له من أن يصبح واحداً منهم كما زعم (مونتغمري وات) (8) حين ربط بين الظلم السائد فى مكة وبين محمد، حيث جعله يتضرر شخصياً، وبشكل مباشر من هذا الظلم، فقرر مثلاً أنه كان يمتلك موهبة الإدارة، فقال: "التى كان من الممكن له تسيير أعظم العمليات فى مكة، ولكن كبار التجار أبعدوه عن محيطهم".(9)

وواقع الحال أن لا أحد من هؤلاء التجار كان يستطيع أن يمنع محمد أو أى رجل فى مثل نسبه وفى مثل صهره، ومكانته وأخلاقه بأن يصبح أى شيء أراد.


وسنجد التأكيد على ما سبق فيما هو أعظم من ذلك؛ فحين أفسد محمد عليهم نسائهم وأبناءهم وحقر من آلهتهم على -حد زعمهم- بدعوته هذه، ما استطاعوا أن يمنعوه عما أراد، رغم إيذائهم لمتبعيه أشد الإيذاء، وبالرغم أنه ظل فى مكة بدعوته هذه ما يقرب من ثلاثة عشر سنة، بين إسراره بدعوته وجهره بها، ومع ازدياد تضرر قومه مما هو عليه، فما استطاع أحدهم أن ينال منه، حتى أنهم فى ذات مرة أجمعوا على أن يأتوا من كل قبيلة برجل حازم بيده سيف صارم، فيجتمعوا عليه فيقتلوه، فيتفرق دمه بين القبائل، وحينها لا يستطيع أهله حرب القبائل كلها، فيكتفون بقبول الدية. ولعلنا نجد فى هذا أصدق دليل للرد على ما زعمه (وات).

ولعل ما فعله محمد من ميله للخلوة والتفكر، ما كان ببدعة ابتدعها ولكنها من سمات أهل الصلاح فى كل زمان، ففى التوراة. جاء ما نصه: {فقال موسى أميل الأن لأنظر هذا المنظر العظيم لماذا لا تحترق العليقة}. وعلى هذه الآية جاء تفسير الآب (أنطونيوس فكرى) (10) بقوله: "أميل الآن لأنظر= إعلانات الله كثيرة لكن على كل واحد أن يميل وينظر فى جلسة هادئة أو صلاة أو خلوة مع الله.. هنا دخل موسى إلى مرحلة جديدة هى مرحلة اللقاء مع الله".(11)

فلقد رغب محمد فى أن يجد الحق الذى ينشد من خلال خلوته فى غار بأعلى جبل حراء -شمال مكة- يدعى غار حراء، بعيداً عن ضجة الناس وضوضاء الحياة، فهو خير ما يصلح للانقطاع والتحنث، فكان يذهب إليه طوال شهر رمضان من كل سنة يقيم به مكتفياً بالقليل من الزاد يُحمل إليه، يطعم من مر عليه من الفقراء والمحتاجين، وممعناً فى التأمل والتفكر، ملتمساً الحق، والحق وحده، متمعناً فى هذا الكون المحيط به: فى السماء ونجومها وقمرها وشمسها، وفى الصحراء ساعات لهيبها المحرق تحت ضوء الشمس الباهرة اللَّآلئ، وساعات صفوها البديع إذ تكسوها أشعَّة القمر أو أضواء النجوم بلباسها الرطب الندى، وفى كل ما وراء ذلك مما يتصل بالوجود وتشمله وحدة الوجود، فى هذا الكون كان يلتمس الحقيقة العليا، ولكن أين الحق إذاً؟ أين الحق فى هذا الكون الفسيح بأرضه وسماواته ونجومه؟ أهو فى هذه الكواكب المضيئة التى تبعث إلى الناس النور والدفء، ومن عندها ينحدر ماء المطر؛ فتكون للناس ولأهل الأرض كافةً من خلائق، حياة بالماء والنور والدفء؟ كلا! فما هذه الكواكب إلا أفلاك كالأرض سواء.. أم هو فيما وراء هذه الأفلاك من أثير لاحد له ولا نهاية له؟ ولكن ما الأثير؟ وهذه الحياة التى نحيا اليوم فتنقضى غداً، وما أصلها. ما مصدرها؟! أمصادفة تلك التى أوجدت الأرض وأوجدتنا عليها؟ لكن للأرض وللحياة سنناً ثابتة لا تبديل لها ولا يمكن أن تكون المصادفة أساسها.. وما يأتى الناس من خير أو شر، أفيأتون طواعية واختياراً، أم هو بعض سليقتهم فلا سلطان لاختيارهم عليه؟ فى هذه الأمور النفسية والروحية كان محمد يفكر أثناء انقطاعه وتحنثه بغار حراء، وكان تفكيره يملأ نفسه وفؤاده وضميره وكل ما فى وجوده، حتى إذا انقضى شهر رمضان عاد إلى خديجة، فإذا استدار العام وجاء شهر رمضان ذهب إلى حراء وعاد إلى تفكيره ينضجه شيئاً فشيئاً، فتزداد نفسه به امتلاء.(12)

شبهة: اطلاع محمد -صلى الله عليه وسلم- على الكتاب المقدس

لم يكن محمد لِيطمع فى أن يجد ما ينشد فى قصص الأحبار ولا فى كتب الر هبان، وبرهان ذلك يأتى فى قول (وات): "وفى البدء، نستطيع إبعاد فكرة قراءته من الكتاب المقدس، أو من أى كتاب يهودى أو مسيحى".(13)، وفى قوله أيضاً نافياً تعلم محمد المباشر من أى شخص: "ولكن يستحيل أن يكون قد أقام مدة طويلة فى دير سورى أو عند أحد الرهبان، إذ أن لمثل هذه الزيارات –ناهيك بالصعوبات المادية– صدى سيئاً، ويُتهم كل من يقوم بها من الناحية السياسية؛ لأن المسيحية كانت فى نظر العرب – قبل كل شىء– ديانة الأحباش والبيزنطيين، وطلب الاطلاع أو العمادة يفتح الباب لدخول التأثيرات الأجنبية".(14)

شبهة: أمّيّة محمد

وينبغى علينا بعد ذكر ما قاله (وات)، أن نشير إلى أمّيّة محمد وجهله بالقراءة والكتابة، والذى تحدث عنها القرآن فجاء به: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ}. [الأعراف: 157 ]، وجاء:{فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ}. [الأعراف: 158]، وفى هذه النقطة الهامة قال الدكتور (خضر شايب): "لقد عنى الفكر الاستشراقى اعتناء خاصاً ببحث مسألة (أُمّيّة) النبى محمد، حتى أنه ليندر ألا يعرض لها أحد المستشرقين بالبحث الجاد أو العرضى، رغم عدم تأثير إثبات هذه الصفة أو نفيها عنه على نظريتهم فى نبوته، ولا يعنى هذا بالضرورة ما قد يتبادر إلى الذهن من أنهم مجمعون على إثبات علمه بالقراءة والكتابة، بل لقد ذهب قسم منهم إلى تبنى النظرة الإسلامية فى الموضوع، والمتمثلة فى تأكيد أمّيّته، ومن هؤلاء (أنا مارى)، و (كازيميرسكى)، و (مونتيه) الذين ذهبوا إلى ذلك فى ترجماتهم للقرآن، إضافة إلى (ول ديورانت) الذى قال: "ولكن يبدو أن أحداً لم يعن بتعليمه القراءة والكتابة، ولم تكن لهذه الميزة قيمة عند العرب فى ذلك الوقت، ولهذا لم يكن فى قبيلة قريش كلها إلا سبعة عشر رجلاً يقرؤون ويكتبون، ولم يعرف عن محمد أنه كتب شيئاً بنفسه، وكان بعد الرسالة يستخدم كاتباً خاصاً، ولكن هذا لم يحل بينه وبين المجىء بأشهر وأبلغ كتاب فى اللغة العربية، أو على تعرفه لشؤون الناس تعرفاً قلما يصل إليه أرقى الناس تعليماً".(15)

وإذا دققنا النظر للوهلة الأولى فى الآيتين السابقتين، نجد أن محمدً كان (أمّىّ) حقيقةً، فكيف به أن يدعى لنفسه أو يلصق به الله تلك الصفة، مع عدم صحتها، فى حين أن القرآن خاطب أول من خاطب أهل محمد وعشيرته وأعرف الناس به!!.
فمن الواضح بالنسبة للباحث المتيقظ الجاد -الذى يتوقف عند حدود ما يمكن أن يستخلصه من المادة العلمية الموجودة من نتائج ونظريات دون زيادة ناشئة عن الوهم أو الجهل- أن فترة تحنث محمد كانت مرحلة جهد انسان عادى، أراد أن يُطهر نفسه ويسمو بأخلاق قومه وسلوكهم، ومجارياً فيه لبعض الذين سبقوه فى هذا المسلك، وخصوصاً (زيد بن عمرو بن نفيل) الذى سبق ذكره.(16)
وهو ما يؤكده (كلود كاهن) عندما قال: "يبدو محمد شخصية سامية جمعت بين التفانى والصدق غير المشكوك فيه، وأرادت أن ترفع من مستوى الحياة الأخلاقية والفكرية للبشر الذين عاش بينهم".(17)

بدء الوحى

وبعد سنوات شغلت أثناءها هذه الحقائق العليا نفسه، صار يرى فى منامه أحلاماً تشع بالآمال والوعود، فتنبلج أثناءها أمام بصيرته أنوار الحقيقة التى ينشدها، ويرى معها باطل الحياة وغرور زخرفها.. إذ ذاك أيقن أن قومه قد ضلوا سبيل الهدى... واستمر محمد على هذا الحال حتى شارف الأربعين، وذهب إلى حراء يتحنث وقد امتلأت نفسه إيماناً بما رأى فى منامه من رؤيا، فاتجه بقلبه إلى الله بكل روحه أن يهدى قومه بعد أن ضربوا تيهاء الضلال... وهو فى توجهه هذا يقوم ويرهف ذهنه وقلبه، وتثور به تأملاته، فينحدر من الغار إلى طرق الصحراء، ثم يعود إلى خلوته، إلى أن طالت به الحال ستة أشهر، حتى خشى على نفسه عاقبة أمره، فأسر بمخاوفه إلى خديجة وأظهرها على ما يرى، وأنه يخاف عبث الجن به. فطمأنته الزوج المخلصة الوفية، وجعلت تحثه بأنه الأمين.(18)

وحوالى عام (12ق.هـ/610 م)، وهو معتكف فى غار حراء، إذ تعرض لهجوم مباغت مذهل، فقد ظهر له من يقول له: اقرأ. فقال محمد مرتعداً: ما أنا بقارىء... فأحس أنه يخنقه حتى بلغ منه الجهد ثم أرسله وقال له: اقرأ. فعاود محمد الإجابة وهو مذهول مما يجد: ما أنا بقارىء. فضمه هذا الذى رأى وقال له فى الثالثة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ.. خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ.. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ.. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ.. عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}. [العلق: 1- 5]، وهذه الآيات هى أول ما نزل من القرآن على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.

فلقد مثلت تلك الكلمات امتداداً لاعتقاد قريش أن الله خلق كل شخص منها، وكشفت وهْم مروءة الاستغناء، وأظهرت الاعتماد الكلى للبشر على الله، وأظهرت خطأ اعتقادهم أن الله هو إله بعيدغائب،بل ها هو حاضر لهداية مخلوقاته، فيجب عليهم الاقتراب منه، وإفراد العبودية له، وعدم الإشراك به.

وما إن تمالك محمد نفسه، فسرعان ما تملكه الرعب من التفكير فى أنه بعد كل جهاده الروحى يتلبسه جنى، فترك الغار وقد انتابته الحيرة فى تفسير ما رأى، ورجع إلى خديجة وفؤاده يرجف. وقال: زملونى زملونى، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال: يا خديجة! مالى! وأخبرها الخبر، وقال: لقد خشيت على نفسى، فكانت خديجة ملك الرحمة وملاذ السلام لهذا القلب الكبير الخائف الوجل، فلم تُبد له أى خوف أو ريبة، وقالت له ما أوردناه سابقاً: "كلا، والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق".

وفى الحقيقة إن بدء الوحى هذا، هو الأساس الذى يترتب عليه جميع حقائق الدين بعقائده وتشريعاته، وفهمه واليقين به هما المدخل الذى يسوقنا إلى اليقين بسائر ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من إخبارات غيبية وأوامر تشريعية، وذلك لأن حقيقة (الوحى) هى الفيصل الوحيد بين الإنسان الذى يفكر من عنده ويشرع بواسطة رأيه وعقله، والإنسان الذى يُبلِّغ عن ربه دون أن يغيّر أو ينقِص أو يزيد.

شبهة: إنكار الوحى

من أجل هذا فقد اهتم المشككون فى الإسلام، بمعالجة موضوع الوحى فى حياة محمد صلى الله عليه وسلم ، وصاروا يبذلون جهداً فكرياً شاقاً، من أجل التلبيس فى حقيقته والخلط بينه وبين الإلهام، وحديث النفس، بل وحتى الصرع أيضاً، وذلك لعلمهم بأن موضوع (الوحى) هو منبع يقين المسلمين وإيمانهم بما جاء به محمد من عند الله، فلئن أتيح تشكيكهم بحقيقته، أمكن تكفيرهم بكل ما قد يتفرع عنه من عقائد وأحكام، وأمكنهم أن يمهدوا لفكرة أن كل ما دعا إليه محمد من المبادئ والأحكام التشريعية ليس إلا من تفكيره الذاتى.(19)

ونجد ذلك فى تحليل فكرة الوحى لدى غير المسلمين: من الشرقيين والغربيين، حيث كان هناك تفسيران لفكرة (الوحى)، فالتفسير الأول والذى تبناه كثير منهم. هو: أن محمداً قد وصل إلى اتخاذ قرار ادعاء النبوة بعد مرحلة تفكير عميق واع، ومقارنة واضحة بين عقائد الوثنيين المشركين وبين العناصر التوحيدية التى استقاها من مصادر متعددة، وهذا الرأى قد تبناه (بروكلمان)..فقال: "وأغلب الظن أن محمداً قد انصرف إلى التفكير فى المسائل الدينية فى فترة مبكرة جداً... ومع الأيام أخذ الإيمان يعمر قلبه، ويملك عليه نفسه فيتجلى له فراغ الآلهة الأخرى... كان محمد يأخذ بأسباب التحنث والتنسك، ويسترسل فى تأملاته حول خلاصه الروحى ليالى بطولها... لقد تحقق عنده أن عقيدة مواطنيه الوثنية فاسدة فارغة، فكان يضج فى أعماق نفسه بهذا السؤال: إلى متى يمدهم الله فى ضلالهم، ما دام عز وجل قد تجلى آخر الأمر للشعوب الأخرى بوساطة أنبيائه؟. وهكذا نضجت الفكرة فى نفسه، أنه مدعو إلى أداء هذه الرسالة، رسالة النبوة".(20)

وسار على هذا النهج (ول ديورانت)، وأضاف إلى العناصر التى أقنعت محمد باتخاذ قراره. ما لاحظه من قوة سياسية للدول الموحِدة. فقال: "وتدل كثير من آيات القرآن على إعجابه بأخلاق المسيحيين، وبما فى دين اليهود من نزعة إلى التوحيد، وبما عاد على المسيحية واليهودية من قوة كبيرة؛ لأن لكلتيهما كتاباً مقدساً تعتقد أنه موحى لها من عند الله... ولهذا أحس بالحاجة إلى دين جديد... دين يؤلف بين هذه الجماعات المتباغضة، ويخلق منها أمة قوية سليمة، دين يسمو بأخلاقهم... ولكنه قائم على أوامر منزلة لا ينازع فيها إنسان".(21)

أما عن الآب (لامانس) فقد جعل أسباب اعتناق النبى محمد للتوحيد والإيمان بالبعث، تكمن فى الرؤى والأحلام والتملكات الشيطانية -كما يزعم-، وفى مقابل هذه المرحلة اللاواعية فقد كانت مرحلة النبوة الحقيقية قراراً واعياً اتخذه النبى محمد صلى الله عليه وسلم بناء على قياس منطقى، ذلك أنه لما: "وجد أنه يلتقى فى هذه المذاهب مع اليهود والنصارى، وأدى به الاقتناع بوجود إله واحد إلى القول بوجود وحى واحد، ولما كان من غير الممكن أن يترك الله العرب، فقد حكم بأنه مدعو إلى: الدعوة إلى هذه الحقائق بين مواطنيه".(22)
ومن أمثلة الإتهامات التى نالت من محمد صلى الله عليه وسلم، ما جاء به أحد عمالقة الأدب (هوجو جروتيوس23Hugo Grotius )، إذ أتى بتهمة جديدة لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، حين ادعى فى رواية له: أن محمداً كان يقوم بتدريب الحمام على التقاط الحبوب من أذنيه ،حتى يستطيع بهذه الحيلة أن يوهم الناس أن روح القدس –الملَك جبريل– قد جاءه على شكل حمامة ليوحى إليه برسالة الله والتى دَونها بعد ذلك فى كتابه المقدس المسمى بالقرآن.

وبالطبع فإن (جروتيوس) كتب هذه الرواية الزائفة بوحى من قراءاته التى تأثر بها فى الإنجيل، حيث جاء فى العهد الجديد: {فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء و إذا السماوات قد انفتحت له فرأى روح الله نازلا مثل حمامة وآتياً عليه}.[ 3:16 يوحنا] ... وبهذا قد أوقع نفسه فى مأزق لم يستطع الخروج منه، فحينما طُلب منه برهان ما جاء به. تعثر وأجاب أنه: "لا يوجد برهان!".(24)... وأنى له بالبرهان على ما زعم، ولم يرِد فى كل الوثائق التى ذكرت وصف الوحى المنزل على محمد ما يشير من قريب أو بعيد إلى ما زعم، فهى لم تتعد ما جاء به (ابن القيّم) حين ذكر مراتب الوحى على أنها سبعة مراتب. فقال:

الأولى: الرؤيا الصادقة وكانت مبدأ وحيه صلى الله عليه وسلم، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.

الثانية: ما كان يُلقيه الملك في رُوعه وقلبه من غير أن يراه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رَوْعِي أَنّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا فَاتّقُوا اللّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطّلَبِ وَلَا يَحْمِلَنّكُمْ اسْتِبْطَاءُ الرّزْقِ عَلَى أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعْصِيَةِ اللّهِ فَإِنّ مَا عِنْدَ اللّهِ لَا يُنَالُ إلّا بِطَاعَتِهِ".(25)

الثالثة: أنه صلى الله عليه وسلم كان يتمثل له الملك رجلا فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول له وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحيانا.

الرابعة: أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس وكان أشده عليه فيتلبس به الملك حتى إن جبينه ليتفصد عرقا في اليوم الشديد البرد وحتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض إذا كان راكبها. ولقد جاء الوحي مرة كذلك، وفخذه على فخذ زيد بن ثابت فثقلت عليه حتى كادت ترضها.

الخامسة: أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه وهذا وقع له مرتين كما ذكر الله ذلك في القرآن: {وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى.. ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى.. فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى.. فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى.. مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى.. أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى.. وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى.. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى}. [النجم: 7- 14]

السادسة: ما أوحاه الله وهو فوق السموات ليلة المعراج من فرض الصلاة وغيرها.

السابعة: كلام الله له منه إليه بلا واسطة ملك،كما كلم الله موسى بن عمران، وهذه المرتبة هي ثابتة لموسى قطعا بنص القرآن وثبوتها لنبينا صلى الله عليه وسلم هو في حديث الإسراء".(26)

وبعد عرض التفسير الأول والذى يتبنى: أن ادعاء محمد للنبوة كان خاضع لإرادته الواعية، نجد أن هناك من خالفه بتفسير آخر، فوقف موقفاً جديداً يفسر انبثاق الوحى فى نفس النبى باعتباره فعلاً غير خاضع بأى شكل من الأشكال لإرادته، ويعود السبب -الذى دعا هؤلاء إلى مخالفة ما ذهب إليه معظم زملائهم- إلى أن التفسير السابق يُظهر النبى محمد فى ثوب الإنسان غير الصادق فى دعواه النبوة، ووعيه التام بأنه كان يخدع الناس، ويتضح لنا هذا السبب فى قول (وات)، حين ذهب إلى التأكيد على عناصر الصدق النفسى للنبى محمد من منظور جدلى لأصحاب التفسير الأول، فقال: "وأقصى ما يصل إليه هذا الرأى: القول بأن محمداً لم يكن يؤمن بما يوحى إليه، وأنه لم يتلقَ الوحى من مصدر خارجى عنه، بل إنه ألف الآيات عن قصد ثم أعلنها للناس... ومثل هذه النظرة للأمور غير معقولة؛ وذلك لأنها لا تفسر لنا بصورة مُرضية لماذا كان محمد فى الفترة المكية مستعداً لتحمل جميع صنوف الحرمان، ولماذا فاز باحترام رجال شديدى الذكاء وذوى أخلاق مستقيمة، كما أن ذلك لا يجعلنا نفهم كيف نجح محمد فى تأسيس ديانة عالمية أنجبت رجالاً قداستهم واضحة للعيان".(27)

وبعد أن رفض (وات) التفسير الأول من منظور علمى ومنطقى، جاء برأى مادى يستند على نظرية ما سماه (العقل الخلاق)، والذى اعتبره عنصراً مشتركاً بين عدد من الناس القادرين على أن يعبروا عن أزمنتهم، حيث قال (وات): "وأبدأ بالتأكيد على أننا نجد، على الأقل عند بعض الرجال، ما نسطيع أن نسميه (الخيال الخلاق). وإن الفنانين والشعراء والكُتاب يُعتبَرون أمثلة لما نقوله، إنهم جميعاً يَضعون فى قوالب حساسة ما يشعر به الآخرون ولكنهم لا يستطيعون التعبير عنه، ولهذا فإن أعمالاً كبرى للخيال الخلاق تكتسب صبغة عالمية مؤكدة؛ لأنها تعبر عن عواطف وميول جيل كامل. إنها طبعاً ليست أشياء خيالية؛ لأنها تعالج موضوعات واقعية، ولكنها تستعمل صوراً بصرية أو صوراً تستدعيها الكلمات، لتعبر عما وراء المفاهيم الفكرية للإنسان، وإن الأنبياء والقادة الدينيين –وأنا مُصرٌ على هذا– يمتلكون هذا الخيال الخلاق، إنهم يعلنون عن أفكار مرتبطة أشد الارتباط بأعمق ما يوجد فى التجربة الإنسانية والأكثر مركزية فيها، مع مرجعية خاصة لاحتياجات أزمنتهم".(28)

ومن يقرأ هذا الرأى لـ (وات) يتضح له دون إمعان التفكير فى الكلمات، أن وات رفض فكرة الوحى من الأساس للأنبياء فى كل زمان، واستبدلها بـما سماه (الخيال الخلاق)، وللتأكيد على مفهوم ما قاله وات، نستعرض قولاً آخر له ينكر فيه أن يكون الله هو مصدر القوة للأنبياء، حيث قال: "إن علامة النبى الكبير هى الجاذبية العميقة لأفكاره بالنسبة لمن تَوجه إليهم. من أين تأتى هذه الأفكار؟ بعضهم يقول: من اللاشعور، والمتدينون يقولون: من عند الله، على الأقل بالنسبة للأنبياء الموجودين فى رواياتهم. ورغم أن البعض –مثل (البارون فون هوغل)– يذهبون إلى الادعاء: بأنه فى كل مكان توجد حقيقة ما. فإن مصدرها هو الله، فإننا نستطيع أن نساند مقولة أن هذه الأفكار للخيال الخلاق تأتى من هذه الحياة الأكبر من الإنسان نفسه، والتى توجد فى جانب كبير منها تحت مستوى الشعور".(29)

والحقيقة أننا نقف مندهشين أمام التفسير الذى أراد (وات) بوساطته أن يوحى للقراء بأنه غير خاضع فيه لمبادىء عقيدته المسيحية، بينما واقع الحال يكذب مزاعمه... ويبدو ذلك عندما نراه لا يسوى فعلاً بين النبى محمد وبين أنبياء العهد القديم والجديد، الذين كان يؤمن فعلاً بتعبيرهم عن إرادة خالق الكون، وعدم صدور رسالاتهم عن قوى اللاشعور فقط، كما هو الحال بالنسبة لنبى الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم الذى فصَّل له تفسيراً خاصاً، ومن أدلة هذا اليقين الحاصل عنده، وتهربه الواضح من الإجابة القاطعة فيما يخص نبوة محمد، مع تأكيده الصدق التام للنبى محمد، ما قاله: "وبالنسبة للمسلمين فإن القرآن هو كلام الله، ومحمد نفسه قد فهمه على هذا الاعتبار، ومن المؤكد أنه كان صادقاً تماماً فى اعتقاده، وكان متأكداً أنه يستطيع التمييز بين أفكاره الخاصة وبين ما يأتيه من خارج نفسه ، وإن مواصلة عمله فى ظروف الاضطهاد والعداء التى عاشها كان سيصبح مستحيلاً لو لم يكن مقتنعاً تماماً بأن الله قد أرسله... ولو كان قد أحس بأن هذا الوحى كان من بنات أفكاره لكانت حركته الدينية معدومة الأساس".(30)

ويستمر (وات) فى تهربه من الاعتراف بالنبوة لمحمد، رغم شهادته له بصدق الاعتقاد، ولكى يثبت نظريته التى سماها (الخيال الخلاق)، نراه يقول: "إن القول بأن محمداً كان صادقاً لا يعنى بأن اعتقاداته كانت صحيحة، فإن الرجل قد يكون صادقاً ولكنه مخطىء، وليس من الصعب الإبانة لرجل غربى معاصر كيف أخطأ محمد، ذلك أن ما يبدو بالنسبة للإنسان آتياً من الخارج قد يكون نتيجة اللاشعور".(31)

ونرى أن نرد على مزاعم (وات) بنفس رده على أصحاب التفسير الأول، فنقول: لماذا فاز محمد باحترام رجال شديدى الذكاء وذوى أخلاق مستقيمة، كما أن ذلك لا يجعلنا نفهم كيف نجح محمد فى تأسيس ديانة عالمية أنجبت رجالاً قداستهم واضحة للعيان، ونزيد القول: بأنه لو كان الأمر يكمن فى اللاشعور، فكيف يتأتى لمحمد باللاوعى أن يأتى بمثل هذا القرآن الذى تحدى به الأولين والآخرين، كما سبق وذكرنا فى فصول مضت من هذا الكتاب، حيث تحديه فى اللغة لأهل اللغة ذاتهم، وإخباره بالغيب الذى تحقق فى حياة محمد وبعد موته، وإخباره بحقائق علمية لم يعرفها البشر إلا فى أيامنا تلك، والتى اكتشفها علماء غير مسلمين ودانوا للإسلام بها، ودون أن يكون لها أى ذكر فى الكتاب المقدس بعهديه ولا فى غيره، وكيف كان لهذا الدين أن يقوم على أيدى تلك الحفنة من الناس بضآلة عددهم وعدتهم، بعد أن تغيروا من النقيض إلى النقيض، من عبادة الأوثان وتعدد الآلهة إلى إخلاص العبادة للإله الواحد، ومن التشتت والتشرذم إلى لم الشمل وتوحيد الصفوف لينتصروا على أعظم إمبراطوريتين على مر التاريخ: الفرس والروم، ومن الجهل الذى أحاط بهم إلى أن يسجلوا فى التاريخ من علوم المعرفة المختلفة ما لم يسبقه إليه غيرهم، وليس فقط بل نقلوه إلى شتى بقاع الارض من خلال توسعاتهم من تلك البقعة فى الصحراء إلى مشارق الأرض ومغاربها.

وفى نفس النهج سار الأستاذ (هاملتون جب) (32)، عندما أعلن رفضه للتفسير الأول، وقبوله للتفسير الثانى، إذ تبنى القول بأن رسالة القرآن كانت انبثاقاً حدسياً لا واعياً ناشئاً عن تفاعلات النبى محمد صلى الله عليه وسلم مع الواقع، وقال: "إن الحدود والتعبيرات التى وردت فيه –أى القرآن– هى المنطلق الذى صدر عنه الفكر والمعتقد الإسلامى... ومع ذلك فإن تلك الحدود والتعبيرات ليس منهجية منظمة بالمعنى الكلامى، وإنما هى أقوال شفوية مباشرة تعبر عن مواقف تلقائية معينة، وعن أفكار تم اقتناصها بقوة الحدس".(33)، ولعل الرد على رؤية (هاملتون) يكون بنفس أسلوب الرد على (وات).

أما عن (ديورانت) فقد كانت له رؤية أخرى قريبة شيئاً ما من ذلك التفسير الثانى ولكنه سرعان ما أبطلها، حيث إنه لم يدعِ كذب محمد، ولكنه حاول تفسير حالة محمد الجسدية عند تلقيه للوحى على أنها لا تتعدى نوبة من نوبات الصرع قد انتابته. فقال: "وكثيراً ما كان يحدث أثناء هذه الرؤى أن يسقط على الأرض ويرتجف أو يغشى عليه، ويتصبب العرق من جبينه... وقد يكون ارتجافه ناشئاً عن نوبات صرع... ولكننا لا نسمع بأنه عض فى خلالها لسانه أو حدث ارتخاء فى عضلاته كما يحدث عادة فى نوبات الصرع، وليس فى تاريخ محمد ما يدل على انحطاط قوة العقل التى يؤدى إليها الصرع عادة، بل نراه على العكس يزداد ذهنه صفاء، ويزداد قدرة على التفكير وثقة بالنفس وقوة فى الجسم والروح والزعامة كلما تقدمت به السن. وقصارى القول أنا لا نجد دليلاً قاطعاً على أن ما كان يحدث للنبى كان من قبيل الصرع".(34)، وبالرغم من أن (ديورانت) لم يدع مجالاً للتعليق، حيث أبطل الإدعاء بنفسه، لكن نشير إلى أن نوبات الصرع التى ذكرها لم يكن لها مصدر فى وثائق السيرة للنبى محمد، وقد سبق ذكر مراتب الوحى سابقاً، وكان (وات) له رد أيضاً على مثل هذا، حين قال: "إن محمداً قد ميز بين ما يوحى إليه وبين أفكاره الخاصة، ولقد أكد أعداء الإسلام غالباً أن محمداً كان مصاباً بالصرع، وأن تجاربه الدينية لهذا لا قيمة لها، ولكن الأعراض الموصوفة لا تشبه أعراض الصرع؛ لأن هذا النقص يؤدى إلى تخاذل جسدى وعقلى بينما ظل محمد حتى آخر حياته مالكاً لقواه العقلية، وحتى لو أمكن ادعاء ذلك فإن الحجة تظل مناقضة لكل رأى سليم، إذ لم تقم إلا على الجهل والوهم؛ لأن المظاهر الجسدية الملازمة لا تثبت ولا تنفى قط بنفسها التجربة الدينية".(35)

وبمقارنة بسيطة بين الصرع والوحى يتضح لنا أن: "الصرع يعطل الإدراك الإنسانى وينزل بالإنسان إلى مرتبة آلية يفقد أثناءها الشعور والحس، ويثور إذا اشتدت به النوبة فيصيب غيره بالأذى، وهو أثناء ذلك غائب عن صوابه، لا يدرك ما يصدر عنه ولا ما يحل به، أما الوحى فسمو روحى اختص الله به أنبياءه ليلقى إليهم بحقائق الكون اليقينية العليا كى يبلغوها الناس، وقد يصل العلم إلى إدراك بعض الحقائق ومعرفة سُننها وأسرارها بعد أجيال وقرون، وقد يظل بعضها لا يتناوله العلم حتى يرث الله الأرض ومن عليها".(36)

وفى هذا السياق لا ننسى أن نذكر الأستاذ (ابن نبى) (37)والذى بحث روايات بدء الوحى بحثاً جيداً، واستنتج منها استقلال الظاهرة عن نفس النبى محمد صلى الله عليه وسلم. فقال: "ومن الواجب أن نذكر مدى التباعد الرئيسى البين فى الحوار بين الذات المتكلمة الآمرة الحازمة، والذات المخاطبة المضطربة المجفلة –(ما أنا بقارئ) مثال على الإجفال-... إن هذا التباعد يصور لنا عملية نفسية أخرى مختلفة تماماً عن الأولى، ولكنها متحدة معها فى الزمن، فإن هاتين الحالتين –أى التباعد الجوهرى والتباعد الزمنى– متعارضتان سواء تصورناهما فى مجال واحد للذات، أو فى مجالين مختلفين، هما: الشعور واللاشعور، فهناك بالضرورة تعدد فى الذوات... وهو تعدد لا يمكن أن تضمه وحدة نفسية، فنحن مضطرون لهذا أن نقرر ازدواج الذات كما يحدث فى أى حوار عادى، وبين هاتين الذواتين اللتين تتحاوران تنجلى الذات المحمدية كشاهد واع، ومؤرخ صادق للواقع الذى نحلله... ومع ذلك فهذه هى المرة الوحيدة التى ستحدد فيها هذه الذات موقفها بالنسبة للظاهرة الغريبة ".(38)

ومن المعروف أن الاستقلال بين هاتين الذاتين –حسب تعبير الأستاذ (ابن نبى)– قد تجاوز لحظة الوحى الأولى، فكان حقيقة مصاحبة لنزول القرآن، أى مدة عشرين سنة كاملة. ومن ملامح ذلك نزول آيات كثيرة تلوم النبى محمد صلى الله عليه وسلم عن بعض المواقف الدعوية أو الشخصية التى وقفها، وهذا يؤكد عدم تحكمه فى محتوى الوحى أو فى زمانه، ومن أمثلته ما حدث حين حدد النبى محمد صلى الله عليه وسلم للمشركين وقتاً لإجابتهم عن سؤالهم -سؤال اليهود فى الحقيقة- عن أصحاب الكهف وذى القرنين والروح، فتأخر نزول الوحى حتى تأثر النبى لذلك، ورجا نزول القرآن، ثم نزلت الإجابة وفيها تعليم وعتاب له، قال الله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا.. إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا}. [الكهف: 23- 24]، وقال الله تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}. [مريم: 64]

واستناداً إلى مثل هذه المعلومات اليقينية قرر الأستاذ (ابن نبى) استمرار الانفصال بين الوحى والنبى محمد حتى نهاية رسالته، قال: "وسنجد فيما بعد، وإلى النهاية أن الذات المحمدية لن تتحدث مع الذات المتكلمة حين تخاطبها. وهذا الصمت فى ذاته جدير بالملاحظة؛ لأنه يسجل إدراك الرسول النهائى أمام الظاهرة التى سيقف منها، منذ ذلك الحين، موقف التسليم".(39)

وبعد التعرض لظاهرة الوحى وما حوته من انتقادات وتحليلات وردود، نجد فيما سبق أن محمداً صلى الله عليه وسلم -بشهادة المشككين- كان صادقاً فى اعتقاداته، وأن ما جاء به لا يعدو كونه وحياً قد أوحى به الله إليه، وأن ادعاءاتهم لم تستند إلى أى سند علمى أو وثائقى، وربما يتضح ذلك فى دفع (وات) لصحة التفسير الأول كما أسلفنا، ولعل فى الصفحات التالية التأكيد على ما سقناه فى السابق.
المراجع

1- محمد نبى لزماننا. ص40،42 بتصرف.
2-كارل بروكلمان...ألمانى،أستاذ فى عدة جامعات.
3- نبوة محمد ص368 - نقلاً عن( تاريخ الشعوب الإسلامية ص26).
4- محمد نبى لزماننا ص 41 بتصرف.
5- حياة محمد/ محمد حسين هيكل (طبعة دار المعارف ص145بتصرف).
6- البخارى
7- نبوة محمد ص456 - نقلاً عن (Mohamet prophet et H . d’ETAT – P 14).
8-...إنجليزى،من رجال اللاهوت المسيحى،عميد قسم الدراسات الإسلامية فى أدنبره
9- نبوة محمد ص 455 - نقلاً عن(العقيدة والشريعة فى الاسلام)
10- ...كاهن كنيسة السيدة العذراء بالفجالة-القاهرة.
11- تفسير العهد القديم للآب/ أنطونيوس فكرى
12- حياة محمد ص 146،147
13-نبوة محمد ص449 - نقلاً عن (Mohamet prophet et H . d’Etat – P 37)
14- نبوة محمد 449 -نقلاً عن( محمد فى مكة/ وات.ص482)
15- نبوة محمد ص389 - نقلاً عن(قصة الحضارة.11 / 21)
16- نبوة محمد ص457
17- نبوة محمد 442 - نقلاً عن(I’Islam medieval – p 83.).
18- حياة محمد ص148
19- فقه السيرة/ للبوطى.ص 63
20- نبوة محمد.ص459 -نقلاً عن( تاريخ الشعوب الإسلامية ص 34,35 ).
21- نبوة محمد.ص459 -نقلاً عن( قصة الحضارة11/23،24 )
22- نبوة محمد.ص460-نقلا عن( I’Islam croyances et institutions).
23- ...محام ولاهوتي ورجل دولة وشاعر هولندي، ويعتبر مؤسس القانون الدولي.
24- الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم /ديدات ص26-27.
25- صحيح الجامع.
26- زاد المعاد/ ابن القيم 1/37-38
27- نبوة محمد ص464-نقلا عن( محمد فى المدينة/وات)
28-نبوة محمد ص461 - نقلاً عن (Mohamet prophet et H. d’Etat – P 209)
29- المرجع السابق.ص210
30- المرجع السابق.ص216
31- نبوة محمد ص461 - نقلاً عن (Mohamet prophet et H. d’Etat – P 217)
32-...انجليزى،مدير مركز دراسات الشرق الأوسط،اشتغل بالأستاذية فى عدد من الجامعات.
33- نبوة محمد.ص 460 -نقلاً عن( دراسات فى حضارة الإسلام.ص234)
35- نبوة محمد.ص473 -نقلاً عن( قصة الحضارة 11/25،26)
36- نبوة محمد .ص474 - نقلاً عن(محمد فى مكة/وات. ص101)
37- حياة محمد .ص 58
38- نبوة محمد.ص 472-نقلاً عن( الظاهرة القرآنية .ص158 )
39- المرجع السابق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق